عبد الحفيظ زياني
لقد بات المجتمع تائها، غير قادر على مسايرة التناقضات التي تسارعت وثيرتها باقتراب الاستحقاقات، وهي المحطة الكاشفة للزيف و الروتوشات التلميعية، في الوقت الذي كان لزاما عليه إنتاج نخب قادرة على نشر الوعي و التعريف بالبرامج الحقيقية، والعمل بالمشاريع وفق ترتيب الأولويات، من منطلق سرد للحقائق الراهنة، بعيدا عن إصدار الأحكام القيمية، فإن المشهد السياسي الحزبوي عموما يوحي بأزمة حقيقية على مستوى الممارسة، و ديمقراطية الذات، قبل الآخر، بسبب أزمة الأخلاق وإشكالية بناء شرعية الآلية والمسار، واختلال ثقافة الالتزام وقيم التعاقد.
يقتضي جوهر الديمقراطية تحصين الذات، وبناء أساس متين للأجهزة الحزبية، ينبني على منطق احترام التوجه والأخر أيضا، بهدف خلق معارضة نقدية حقيقية داخل التنظيمات الحزبية، ضمانا لخلق التوافقات داخل التنظيم الحزبي، ثم سيادة المناخ السليم وانسجام الخطاب السياسي مع ذاته، بحكم تفاعل المرجعيات، لكن الأزمة الحقيقية ليست أزمة تعاقد والتزام، بقدر ماهي أزمة شرخ في الإطار العام للأحزاب للسياسية على مستوى الخطاب المتداول، الذي تسوده نزعة الانتماء الضيقة.
إن الحديث عن إشكالية من هذا القبيل يفرض الاستثناء، بدون شك، فقد استطاعت بعض التوجهات الحزبية المحافظة على وحدة الخطاب وانسجامه، وتحصين ذاتها، وبناء تنظيمها، مما جعل منها قوة اقتراحية مازالت صامدة رغم رياح التغيير التي كادت تعصف بها لولا صمود مرجعيتها. سيظل مشكل عدم احترام مبدأ التعاقد، الناتج عن الترحال العشوائي الذي لا يراعي أدنى معايير الانسجام والتقارب، سببا لاتساع الهوة وانعدام التواصل بين الأجهزة الحزبية و قواعدها، الأمر الذي سينتج عنه إشكاليات تهدد البناء المجتمعي الذي بات يعيش تناقضات في المواقع، فتدني ثقافة الانتماء للتيار الحزبي، وفقدان الثقة، فضلا عن العزوف، هو الأشد خطرا، إضافة إلى شيخوخة القيادات ولا ديمقراطيتها، وانعدام النخب القادرة على استرجاع الثقة الضائعة، مما يفرض تقوية التواصل وخلق آليات التكوين الذاتي وإعادة الهيكلة على أسس بناء البرامج المنعدمة، واحترام التوجه والمنهج.
يحتاج البناء الداخلي للآلة السياسية فتح نقاش داخلي، ثم القضاء على الأمراض التي لربما يستعصى حلها لو استفحلت، حتى تضمن لنفسها البقاء والحضور القوي ضمن محطات تعكس بجلاء قضايا المصير، عليها أن تضع الشأن العام ضمن أولوياتها الكبرى، الغائب الدائم عن اهتماماتها، مقابل المد النفعي المستفحل، فصراع المواقع منطقي و مفروض بقوة، وقد يكون صحيا أحيانا، إذ أنه نتيجة جدلية تطاحن الألوان و المصالح الخاصة، لكنه سيشكل خطرا على المجتمع إذا ما طفى على سطح الصراع، فالبراغماتية المقنعة ما هي إلا نتيجة تنافر المرجعيات وتصارعها.
على الخطاب الحزبي الراهن، احتراما لمنطق الأولويات، تجديد الاختيارات وتحيين البرامج، واعتماد النقد الذاتي لأجل تطهير الذات، و إصلاح الداخل قبل الخارج، وتقديم التصور البديل للأزمات التي يعيشها المجتمع، من خلال رؤية واضحة ترتكز على مقاربة الواقع، بدل إزهاق الجهد والزمن في قضايا هامشية لن تزيد سوى من تعميق الأزمة.
يظل الخطاب الحزبي متدنيا حد العدم، يسوده طغيان الذاتية و المصالح على حساب البرامج التي انعدمت و حلت محلها لغة غريبة عن اهتمامات الفرد و المجتمع على السواء، فالأفق حتما سيشكل قتامة، و لا تغيير في المستقبل القريب مادام الكل يسبح في فلكه، نهيك عن أزمة التعاقد التي بدت بشكل جلي بسبب الترحال الزمني و السريع لأناس يسمون أنفسهم نخبة الفترة، و النخبة المطلوبة اختارت لنفسها الاعتكاف و الوقوف موقف المتفرج، أما المجتمع فقد بات عاجزا عن إنتاج نخب مؤهلة من جهة، و من جهة ثانية فقد أصبح غير قادر على مسايرة واقع مأزوم .