صدر حديثا عن مطبعة “جسور” بوجدة كتاب مترجم إلى العربية يحمل قيمة تاريخية وعلمية خاصة، يتناول قبيلة آيت سعيد التابعة ترابيًا لإقليم الدريوش، وهو في الأصل أطروحة في الطب العسكري أعدّها الطبيب الإسباني إغناسيو إيريبارين كوارتيرو خلال الفترة الاستعمارية.
يمتدّ هذا المؤلف على 120 صفحة من الحجم المتوسط، ويندرج ضمن أدبيات ما يُعرف بـ”الطب الكولونيالي”. وقد وثّق مؤلفه، الذي عاش في المنطقة بين سنتي 1925 و1932، ملاحظاته ومعايناته حول مظاهر الحياة في قبيلة آيت سعيد من زوايا متعددة: جغرافية، أنثروبولوجية، اجتماعية، لغوية، وطبية، وذلك في سياق المقاومة المحلية للاستعمار الإسباني.
شارك في ترجمة وتقديم هذا العمل كل من الدكتور مصطفى الغديري، الباحث في تراث الغرب الإسلامي، وسعيد بلغربي، أستاذ اللغة العربية بثانوية دار الكبداني، والبشير بوزيدي، المهندس المتخصص في البرمجيات والاتصالات المقيم بألمانيا.
ويرى الغديري أن هذه الأطروحة، رغم كونها بحثًا طبيا موجها لنيل الدكتوراه من الجامعة المركزية بمدريد، تتجاوز مجالها التخصصي لتقدم صورة شاملة عن القبيلة. فقد عاين المؤلف مختلف أوجه الحياة اليومية لسكان آيت سعيد، ولامس عن قرب قضاياهم الصحية والاجتماعية والثقافية، موثّقًا أمراضًا انتشرت آنذاك مثل السيفيليس والجدري والحصبة والرمد الحبيبي، بالإضافة إلى وصفه للطب التقليدي المحلي الذي كان يجمع بين المعتقدات الشعبية والتجربة الميدانية.
الطبيب الإسباني، الذي يُعد أول من مارس الطب في قبيلة آيت سعيد، لم يكتف بدوره كطبيب عسكري، بل انخرط في حياة السكان، وعاش بينهم، متنقلاً مع القوات الاستعمارية، وموثّقًا بدقة التفاصيل الدقيقة لواقع القبيلة آنذاك. جمع في أطروحته بين التوثيق العلمي والرصد الأنثروبولوجي والتأريخ الاجتماعي، ما جعل عمله ذا طابع توثيقي نادر.
ورغم خلفيته الكولونيالية، فقد أبدى المؤلف درجة من الصدق في رصد الواقع المحلي، دون إغفال دور الطب الشعبي والممارسات التقليدية، مما أضفى على العمل طابعًا إنسانيًا متميزًا.
يُعد هذا الكتاب مرجعًا تاريخيًا واجتماعيًا مهمًا، إذ يسدّ فراغًا كبيرًا في التوثيق المحلي للمنطقة، ويعيد الاعتبار لذاكرة جماعية ظلت مهمّشة لأكثر من قرن. كما يمثل مساهمة نوعية في حفظ التراث الاجتماعي والطبي والأنثروبولوجي للريف الشرقي، ويتيح لأبناء قبيلة آيت سعيد فرصة نادرة للاطلاع على جزء من تاريخهم في ظل غياب أرشيف محلي يوثق تلك المرحلة.